سورة الذاريات - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الذاريات)


        


{وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)} [الذاريات: 51/ 1- 14].
أقسم اللّه تعالى لتأكيد قضية الإيمان بالبعث: بهذه المخلوقات، وللتنبيه عليها، والتشريف لها، والاعتبار بها، حتى يتوصل الناظر فيها إلى التوحيد، فقال: أقسم لإثبات الحشر بالرياح التي تذرو التراب وغيره وتفرقه، وبالسحب الحاملة الماء الثقيل، وبالسفن الجارية بيسر وسهولة فوق الماء، وبالملائكة التي تقسم الأرزاق والأمطار والآجال بين المخلوقات، بأن الموعود به من الحشر إلى اللّه تعالى، ووقوع المعاد، صادق واقع، وأن الجزاء بالثواب والعقاب قائم فعلا حتما. والحاجة إلى هذا القسم: الاعلام بصدق النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، وجريا مع اعتقاد العرب أن الإيمان الكاذبة تذر الديار بلاقع (خرائب) وتضر صاحبها، فالحلف لزرع الثقة التامة، وبخاصة أنهم يعلمون أن محمدا صلّى اللّه عليه وسلّم لا يحلف كاذبا.
والسماء ذات الطرائق والممرات، أو ذات الخلق السوي القوي، إنكم يا جماعة قريش مختلفو الأقوال، مضطربو الكلام، فمرة تقولون في القرآن والرسول: شعر وشاعر، وأحيانا سحر وساحر، وتارة كهانة وكاهن أو مجنون. وإنما يصرف عن هذا القرآن والإيمان به وبرسوله وعن الخير إلى الشر، من صرف في علم اللّه تعالى.
قبح أو لعن الكذابون أصحاب القول المختلف، المرتابون في وعد اللّه ووعيده، الذين هم في جهالة تغمرهم، وغفلة في الكفر تخيم عليهم، والغمرة: كل ما ستر الشيء وغطّاه.
يسألك المشركون تكذيبا وعنادا واستهزاء قائلين: متى يوم الجزاء؟ فقل لهم: إنه يوم يعذب الكفار ويحرقون في نار جهنم. وقوله: {يُفْتَنُونَ} بمعنى يحرقون ويعذبون في النار، يقال: فتنت الذهب: أحرقته لتختبره، وقوله {يَوْمَ هُمْ} منصوب على الظرف من مقدّر، تقديره: هو كائن يوم هم على النار، أو نحو هذا، كما قال الزجاج.
وتقول لهم خزنة النار: ذوقوا عذابكم أو حريقكم، هذا العذاب الذي كنتم تستعجلون أو تطلبون تعجيله، استهزاء منكم، وظنا أنه غير كائن، واستعجالهم هو قولهم: {أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} وغير ذلك من الآيات التي تقتضي استعجالهم على جهة التكذيب منهم.
يفهم من هذه الآيات أن وقوع البعث أمر مقطوع به، ولولا التأكيد عليه، لما أقسم اللّه بهذه المخلوقات، والقسم عليها بغير بدئها بالحروف الأبجدية هو الظاهرة الشائعة في القرآن لإثبات أصول العقيدة: وهي التوحيد، والنبوة، والبعث، فسورة الصافات مثلا أقسم اللّه فيها لإثبات توحيد الذات الإلهية، فقال: {إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)} [الصافات: 37/ 4]. وسورة النجم والضحى، أقسم اللّه فيها على صدق الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم، فقال: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2)} [النجم: 53/ 1- 2].
وقال: {وَالضُّحى (1) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (3)} [الضحى: 93/ 1- 3].
وبقية السور كان المقسم عليه كما في الذاريات هو البعث والجزاء.
ويلاحظ أيضا أن اللّه تعالى أقسم بجموع المؤنث السالم في سور خمس، ففي سورة (الصافات) لإثبات الوحدانية أقسم اللّه بالساكنات، وفي بقية السور، أقسم بالمتحركات لإثبات الحشر، فقال: «والذاريات» «والمرسلات» «والنازعات» «والعاديات» لأن في الحشر جمعا وتفريقا، وهو يناسب الحركة.
وتعجل العرب المشركين العذاب، وإصرارهم على كفرهم: هو الذي جعلهم يسألون استهزاء وشكا في القيامة وعنادا، متى يوم الحساب؟ فكان جواب الخالق:
إنه اليوم الذي تحرقون فيه في نار جهنم، وضم إليه التوبيخ والتهكم بهم قائلا منه أو من طريق الخزنة: ذوقوا عذابكم وجزاء تكذيبكم، ذلك العذاب الذي استعجلتم به في الدنيا.
حال المتقين ونعيمهم:
في آيات سابقة في سورة الذاريات ذكر اللّه تعالى حال الكفرة، وما يلقون من عذاب اللّه تعالى، ثم أعقب ذلك بيان حال المتقين، وما يلقون من النعيم في الآيات الآتية، ليبين الفرق ويتبع الناس طريق الهدى. وهذا لون بياني رائع للمقارنة أو الموازنة، فيظهر الحق من الباطل، قال اللّه تعالى:


{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} [الذاريات: 51/ 15- 23].
إن الذين اتقوا ربهم بالتزام أوامره واجتناب نواهيه باتقاء الكفر والمعاصي، هم في الآخرة في جنات (بساتين) فيها عيون جارية، آخذين في دنياهم ما آتاهم ربهم من أوامره ونواهيه وفرائضه وشرعه.
إنهم كانوا في الدنيا محسنين في أعمالهم الصالحة، يراقبون اللّه تعالى فيها، كما جاء في آية أخرى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24)} [الحاقة: 69/ 24].
ومن إحسانهم في العمل: أنهم كانوا ينامون زمنا قليلا من الليل، ويصلون أكثره، أي إن نومهم كان قليلا لاشتغالهم بالصلاة والعبادة، من كل ليلة.
وقوله: {ما يَهْجَعُونَ} ما عند جمهور النحويين: مصدرية، و{قَلِيلًا} خبر كان، والمعنى: كانوا قليلا من الليل هجوعهم، والهجوع فاعل {قليلا}.
وكانوا في الجزء الأخير من الليل يطلبون من اللّه تعالى المغفرة، قائلين: اللهم اغفر لنا وارحمنا، أي إنهم كانوا يحيون أكثر الليل متهجدين، فإذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنّهم باتوا في معصية.
وجعلوا في أموالهم جزءا مقسوما معينا للفقراء والمحتاجين، على سبيل البر والصلة، والسائل: هو الفقير الذي يسأل. والمحروم: هو الذي حرم المال ويتعفف عن السؤال. وهذا الجزء الذي جعلوه للفقراء: هو على وجه الندب، لا على وجه الفرض، ومعلوم: يراد به متعارف. وكذلك قيام الليل الذي مدحوا به ليس من الفرائض، وأكثر ما تقع الفضيلة بفعل المندوبات.
أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن الحسن بن محمد بن الحنفية: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم بعث سرية، فأصابوا وغنموا، فجاء قوم بعد ما فرغوا- لم يشهدوا الغنيمة- فنزلت الآية: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}.
وبعد هذا البيان، يوجد كلام مقدّر تقديره. فكونوا مثلهم أيها الناس، وعلى طريقتهم، فإن النظر المؤدي لهذا التقدير له وجه جيد.
ثم ذكر اللّه تعالى بعض الأدلة على قدرته الدالة على وقوع الحشر، فقال: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20)} أي وفي معالم الأرض من جبال ووديان وقفار ومعادن، وعيون وأنهار وبحار، وأنواع مختلفة من النبات والحيوان والناس، مع اختلاف ألسنتهم وألوانهم، وقدراتهم الفكرية والجسدية وغير ذلك، من عجائب الصنع الإلهي، في ذلك دلائل واضحة، وعلامات ظاهرة على عظمة الخالق وقدرته الباهرة، للذين يوقنون بالله تعالى، لأنهم الذين يعترفون بذلك، ويتدبرون فيه، فينتفعون به.
ومن أدلة قدرة اللّه وتوحيده: خلق النفوس البشرية، أفلا تنظرون نظرة متأمل معتبر، ناظر بعين البصيرة. ففي تركيب الجسم بأجهزته المختلفة من جهاز هضم ودم وتنفس، وإحساس في الأعصاب ولمس وذوق، وفي تركيب الدماغ وما يشتمل عليه من عشرات ملايين الخلايا، في ذلك دلالة على الخالق المبدع. واللّه ضامن الرزق لعباده، ففي السماء تقدير الأرزاق وتعيينها، وفيها ما توعدون من خير وشر، وجنة ونار، وثواب وعقاب، ففي السحاب (السماء) المطر، وفي السماء عوامل الرزق من شمس وقمر وكواكب ومطالع ومغارب تختلف بها الفصول، ويكون تغيرها مناسبا لأنواع النباتات المختلفة التي تسقى بماء المطر، وتسوقها الرياح، وتغذيها الشمس بحرارتها، ويمنحها ضوء القمر قوة ونموا.
ثم أقسم اللّه تعالى على أحقية البعث وضمان الرزق فقال: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)} أي فو رب العزة والجلال إن ما أخبرتكم به في هذه الآيات، وما وعدتكم به من أمر القيامة والبعث والجزاء، وتيسير الرزق وضمانه:
حق لا مرية فيه، كائن لا محالة، فلا تشكّوا فيه، كما لا تشكّوا في نطقكم وتيسيره حين نطقكم، فهو كمثل نطقكم، شبّه هذا القول والخبر في التيقن به بالنطق من الإنسان، وهو في غاية الوضوح، ولا لبس فيه، خلافا للرؤية والسمع، قد يقع فيهما اللّبس.
قصة ضيف إبراهيم عليه السّلام:
تكررت قصة إبراهيم الخليل في القرآن بمناسبات مختلفة لكونه شيخ المرسلين، ولأنها ذات موضوعات متنوعة، منها حوارة من غير معرفة مع الملائكة الضيوف الذين أرسلهم اللّه لإهلاك قوم لوط، حتى ينزجر كفار قريش وأمثالهم ما دام هذا القرآن يتلى، وتبين من القصة: مدى كرم إبراهيم، وبشارته من الملائكة بغلام هو إسحاق بن سارة، في حال الشيخوخة وعقم امرأته. كما تبين أيضا مدى تأثير العذاب بالحجارة الشديدة الأذى، وإنجاء لوط عليه السّلام وأهله إلا امرأته، وذلك في الآيات التالية:


{هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَلا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَقالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)} [الذاريات: 51/ 24- 37].
هل بلغك أيها النبي وكل مخاطب قصة إبراهيم عليه السّلام مع ضيوفه الملائكة المكرّمين عند اللّه تعالى، الذين جاءوه بصورة بني آدم، في طريقهم إلى قوم لوط، فحين دخلوا عليه سلموا بقولهم: سلاما، أي نسلم عليك سلاما، فأجابهم بأحسن من تحيتهم بما يدل على الثبات: سلام عليكم، إنكم قوم لا أعرفكم، فمن أنتم؟
فذهب إبراهيم عليه السّلام خفية من ضيوفه، في سرعة، فقدم إليهم عجلا سمينا مشويا على الحجارة المحماة، فقال بعد دعوتهم للأكل بتلطف وأدب: {أَلا تَأْكُلُونَ}.
فلما أعرضوا عن الأكل، لأن الملائكة لا يأكلون ولا يشربون، أحسّ في نفسه خوفا منهم، على عادة الناس أن الامتناع عن الطعام يبيّت شرا، وأن تناول الطعام أمان للمضيف، ودليل على سرور الضيف، فظن إبراهيم عليه السّلام أنهم جاؤوا للشر، لا للخير، فقالوا له: إننا ملائكة رسل من اللّه تعالى، وبشروه بغلام يولد له، بالغ العلم: وهو إسحاق عليه السّلام في رأي الجمهور، فأقبلت امرأته سارّة، لما سمعت بشارتهم، صائحة صارخة، وضربت وجهها بيدها، كعادة النساء عند التعجب، وقالت: كيف ألد، وأنا كبيرة السن، وعقيم لا تلد، حتى في عهد الشباب؟! قالت الملائكة: مثلما قلنا لك قال ربك، فلا تشكّي في ذلك، ولا تعجبي منه، فنحن رسل اللّه، واللّه على كل شيء قدير، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله، العليم بما تستحقونه من الكرامة وبكل شيء في الكون، وكان هذا الحوار مع كل من إبراهيم عليه السّلام، وزوجته سارّة.
ثم سألهم إبراهيم عليه السّلام قائلا: فما شأنكم الخطير، وأمركم المبهم؟ وكأنه يقول: ما هذه الطامة التي جئتم لها؟ فأخبروه حينئذ أنهم أرسلوا إلى سدوم قرية لوط عليه السّلام، بإهلاك أهلها الكفرة العاصين المجرمين، والمجرم: فاعل الجرائم: وهي صفات المعاصي من كفر ونحوه، لنهلكهم بحجارة من طين متحجر، مطبوخ بالنار، كالآجرّ، معلّمة بعلامتها من السماء، تعرف بها، كالخواتيم، على كل حجر اسم المضروب به، كما قيل، مخصصة عند اللّه لهلاك المتمادين في الضلالة، المجاوزين الحد في الفجور.
ولم يكن هذا العذاب عشوائيا يصيب الجميع، وإنما فيه تمييز المؤمنين عن المجرمين، فلما أردنا إهلاك قوم لوط، أخرجنا من كان في تلك القرية المؤمنين برسالة لوط عليه السّلام، تنحية لهم من العذاب، فلم نجد غير أهل بيت واحد أسلم وجهه لله تعالى، وانقاد لأوامره، واجتنب نواهيه، وهو بيت لوط بن هاران بن تارح ابن أخي إبراهيم عليه السّلام، آمن أي لوط برسالة عمه إبراهيم، وتبعه في رحلاته إلى مصر، ثم تركه عن تراض، ونزل إلى سدوم في الأردن. وكان المؤمنون الناجون ثلاثة عشر، هم لوط وأهل بيته إلا امرأته.
وقوله تعالى: {مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} و{مِنَ الْمُسْلِمِينَ} لا تغاير هنا بينهما، لأن أسرة لوط كانوا قوما مؤمنين ومسلمين، والمقرر عند أهل السنة: أن الإيمان أخص من الإسلام، فكل مؤمن مسلم ولا ينعكس، فاتفق الوصفان هنا، لخصوصية الحال، ولا يلزم ذلك في كل حال. ودليل التفرقة بين الإيمان والإسلام قوله تعالى: {قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا} [الحجرات: 49/ 14].
والعبرة من قصة قوم لوط: ما أخبر اللّه تعالى عنه: لقد أبقينا في تلك القرى علامة ودلالة لكل من يخاف عذاب اللّه ويخشاه، وهم المؤمنون، وهي آثار العذاب المدمر المؤلم، فإنها ما تزال ظاهرة بينة، وأثرا باقيا مؤرخا لا يفنى ذكره. فهو آية (علامة) على قدرة اللّه تعالى، وانتقامه من الكفرة.
تدمير قوم نوح وفرعون وعاد وثمود:
لقد طوى اللّه عز وجل وجود أقوام غابرين من التاريخ، فاستأصلهم ولم يبق أحدا منهم، وهم قوم نوح وفرعون ولوط وعاد وثمود، وإنما ترك بعض آثارهم للعبرة والعظة، مع بيان جرائمهم ومعاصيهم التي ارتكبوها، لمعرفة أن العذاب أو الجزاء قائم على مبدأ الحق والعدل، فلا ظلم ولا تجاوز فيه، وإنما التجاوز لحدود اللّه، وتكذيب رسله: كان هو السبب المباشر، ومناط العقاب، مما يثير التفكير ويبعث على التأمل لتفادي الموبقات، وهذا ما دونته الآيات الآتية هنا بإيجاز:

1 | 2